الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ} يعني: إنَّ الله تعالى، قال لي في القرآن: أن أخلص عملك ودينك: {لِلدّينِ حَنِيفًا} يعني: استقم على التوحيد مخلصًا: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} أو يقال: وأمرت أن أكون من المسلمين.إلى هاهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك للكفار، وقد تمّ الكلام إلى هذا الموضع.ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا أمرتك: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا} يعني: وأمرتك أن تخلص عملك دينك للدين حنيفًا، يعني: استقم على ذلك.والحنف في اللغة، هو الميل والإقبال إلى شيء، لا يرجع عنه أبدًا، لهذا سُمِّيَ الرجل أحنف، إذا كان أصابع رجليه مائلًا بعضها إلى بعض.ثمّ قال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله} يعني: لا تعبد غير الله: {مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} يعني: ما لا ينفعك إن عبدته، ولا يضرك إن عصيته، وتركتَ عبادته،: {فَإِن فَعَلْتَ} ذلك، يعني: فإن عبدت غير الله: {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين} يعني: من الضَّارِّين بنفسك.قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} يعني: إن يُصِبْكَ الله بشدة أو بلاء: {فَلاَ كاشف لَهُ إِلاَّ هُوَ}، يعني: لا دافع لذلك الضر إلا هو.يعني: لا تقدر الأصنام على دفع الضر عنك: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} يعني: إن يُصِبْكَ بسعة في الرزق وصحة في الجسم،: {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} يعني: لا مانع لعطائه.{يُصَيبُ بِهِ} يعني: بالفضل: {مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} مَنْ كان أهلًا لذلك.{وَهُوَ الغفور} لذنوب المؤمنين،: {الرحيم} بهم.فأعلم الله تعالى أنه كاشف الضر، ومعطي الفضل في الدنيا، وهو الغفور للمؤمنين، الرحيم بقبول حسناتهم.قال الفقيه أبو الليث، حدثنا محمد بن الفضل، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا شيخ بصري عن الحسن، أنه قال: قال عامر بن عبد قيس: ما أبالي ما أصابني من الدنيا وما فاتني منها، بعد ثلاث آيات ذكرهن الله تعالى في كتابه قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ}، {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم} [فاطر: 2] وقوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6].قوله تعالى: {قُلْ يا أهل أَيُّهَا الناس} يعني: يا أهل مكة: {قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن،: {فَمَنُ اهتدى} يعني: من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن،: {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} يعني: ثوابه لنفسه،: {وَمَن ضَلَّ} يعني: ومن كفر ولم يؤمن،: {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} يعني: جنايته على نفسه، وإثم الضلالة على نفسه،: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} يعني: لست عليكم بمسلط، وهذا قبل الأمر بالقتال.ثم قال تعالى: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} يعني: إن لم يصدقوك، فاعمل بما أنزل إليك من القرآن،: {واصبر} على تكذيبهم،: {حتى يَحْكُمَ الله} يعني: يقضي الله تعالى بعذابهم، في الدنيا وفي الآخرة،: {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} يعني: أعدل العادلين.ويقال: واصبر حتى يحكم الله، يعني: حتى يأمر الله المؤمنين بقتالهم.ويقال: {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} يعني: من اجتهد حتى اهتدى فإنما يهتدي لنفسه،: {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} يعني: ومن تغافل عن الحق حتى ضل فعقوبته عليها والله أعلم. اهـ.
أي فهلاّ.وقرأ في الآية: {فلا تكن قرية} لأن في الاستفهام ضربًا من الجحد.{آمَنَتْ} عند معاينتها العذاب: {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} في وقت اليأس: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} فإنّهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت لما علم من صدقهم. قال أهل النحو: قومَ منصوب على الاستثناء المنقطع، وإن شئت قلت من جنسها لأن القوم مستثنى من القرية، ومنجون من الهالكين، وتقديره: لكن قوم يونس كقول النابغة: وفي يونس ست لغات، ضم النون، وقرأ [...] بضمّ الياء لكثرة من قرأ بها، وقرأ طلحة والأعمش والحميري وعيسى بكسر النون، وعن بعضهم بفتح النون، وروى أبو قرظة الأنصاري عن العرب همزة مع الضمة والكسرة والفتحة.{لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} وهو وقت انقضاء آجالهم، قال بعضهم: إنّما نفعهم إيمانهم في وقت اليأس لأن آجالهم بقى منها بقية فنجوا لما بقي من آجالهم، فأما إيمان من انقضى أجله فغير نافع عند حضور العذاب.وقصة الآية على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير والسدّي ووهب وغيرهم أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب يجيئهم إلى ثلاث، فأخبرهم بذلك فقالوا: إنّا لم نجرِّب عليه كذبًا فانظروا، فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم، فلمّا كان في جوف الليل خرج ماشيًا من بين ظهرانيهم فلمّا أصبحوا تغشّاهم العذاب كما يغشي الثوب القصير إذا أدخل فيه صاحبه.قال مقاتل: كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ميل. قال ابن عباس: قدر ثلثي ميل. قال وهب: غامت السماء غيمًا أسود هائلا يدخل دخانًا شديدًا، وهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيّهم فلم يجدوه، فقذف الله في قلوبهم التوبة فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابّهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، فحنّ بعضهم إلى بعض، وعلت أصواتهم واختلطت أصواتها بأصواتهم وحنينها بحنينهم، وعجوا وضجوا إلى الله تعالى وقالوا: آمنّا بما جاء به يونس، فرحمهم ربّهم واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم العذاب بعدما أظلّهم وتدلّى إلى سمعهم، وذلك يوم عاشوراء.قال ابن مسعود: بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادّوا المظالم بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس فيقلعه ويردّه.وروى صالح المري عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد، قال: لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا له: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا: يا حيّ حين لا حي ويا حي [يا] محيي الموتى، ويا حي لا إله إلاّ أنت، فقالوها، فكشف عنهم العذاب ومُتّعوا إلى حين.قالوا: وكان يونس عليه السلام وعدهم العذلب فخرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم يرَ شيئًا، وكان من كذب ولم تكن له بيّنة قتل، فقال يونس لما كشف عنهم العذاب: كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم؟ فانطلق عاتبًا على ربه، مغاضبًا لقومه فأتى البحر [فإذ سفينة قد شحنت] فركب السفينة [لوحده] بغير أجر، فلمّا دخلها وقفت السفينة، والسفن تسير يمينًا وشمالا قالوا: ما لسفينتكم؟ قال يونس: إنّ فيها عبدًا آبقًا ولا تجري ما لم تلقوه، فقالوا: وأنت يا نبي العبد فلا نلقيك، فاقترعوا فوقعت القرعة عليه ثلاثًا فوقع في الماء ووكل عليه حوت فابتلعه.قال ابن مسعود: فابتلعه الحوت وجرى به حتى أتاه إلى قرار الأرض، وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجاب الله له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر [عريانًا]، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فجعل يستظلّ بها، ووكل الله به سخلا يشرب من لبنها، فيبست الشجرة فبكى عليها، فأوحى الله إليه: تبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف إنسان أُهلكهم فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس، قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس، قال الغلام: إن كنت يونس فقد تعلم أنه لم يكن لي بينة، [فإنْ] قلت: فمن يشهد لي؟ قال يونس: يشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة، قال الغلام: أراهما؟ قال يونس: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه، فقال للملك: إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام، وكان له أخوة وكان في منعة فأمر الملك بقتله، فقال: إنّ لي بينة فانسلّوا معه إلى البقعة والشجرة، فقال الغلام: أنشدكما هل أشهدكما يونس؟ قالا: نعم، فرجع القوم مذعورين، وقالوا للملك: شهد له الشجرة والأرض، فأخذ الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه، وقال: أنت أحق بهذا المكان مني، قال ابن مسعود: فأقام لهم أميرًا فيهم ذلك الغلام أربعين سنة.{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} يا محمد: {لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعا} قال الحسين بن الفضل: لأضطرّهم إلى الإيمان. قال الأخفش: جاء بقوله: {جميعًا} مع {كل} تأكيدًا كقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51].
|